ألم يتسلل إليكَ من قبل شعور بارد اقشعر له بدنك وندهش له ذهنك بأن اللحظة التي أنت فيها قد تكررت من قبل، بحذافيرها.
أي انك وأنت جالس مع أصدقائك، أو حين تمر في مكان معين تشعر بأن هذا الموقف قد حدث لك من قبل، وأنك قد شاهدت هذا المكان وهذا الموقف من قبل لكن أين؟ وكيف؟
الشعور لا يدوم طويلاً، إنما هو فقط يومض بقوة مرة واحدة ويتلاشى في جزءٍ من الثانية، مخلفاً وراءه سحباً من الإبهام والغموض تعيقك عن اللحاق به لفهمه بشكل أفضل وأعمق، وبانقشاع تلك السحب يكون هو قد اختفى وتكون أنت قد نسيت الأمر برمته.
لعل أغلبنا قد مر بتلك التجربة أو هذه الظاهرة، والجميع يتساءل عن كيفية وسبب حدث هذا الأمر.
هذه الحيرة أيضاً كانت تلازم علماء النفس والطبيعة والفلاسفة الذين انشغلوا كثيراً للإجابة على سبب وكيفية حدوث هذه الظاهرة، الذين أطلقوا عليها ظاهرة الـ (ديجافو).
الديجافو Deja Vu كلمة فرنسية تعني” قد حدث من قبل” وتعني حرفياً بالإنجليزي already seen وهي الإحساس بالألفة مع شيء يُفترض أنه ليس كذلك.
مثال: تسافر لمكان لأول مرة في حياتك وتدخل مطعم مع أصدقائك وتجلسون إلى الطاولة وتتناولون عشائكم بينما تتناقشون في موضوعٍ ما وفجأة دون مقدمات ينتابك الشعور بأنك قد مررت بهذه اللحظة (بكل ما فيها) من قبل، نفس المكان، نفس العشاء، نفس الموضوع، نفس الأوجه المحيطة بك، كل شيء، كأنه حدث من قبل.
ولكن أين؟ متى؟ لا تتذكر! وليس هذا فقط، بل إنك قد تتذكر ما سيحصل في الثواني القادمة (كأن يسقط شيء أو يمر شخص ما أو أي شيء) وفعلاً يحدث.
فرضيات لتفسير الظاهرة:
المحللون النفسيون يرون في الديجافو تعبيراً عن رغبة قوية لتكرار تجربة ماضية، أما الأطباء فيفسرونها على أنها حدوث عدم مطابقة ( mismatching ) في الدماغ يتسبب في جعل الدماغ يخلط بين الإحساس بالحاضر والماضي.
أما علماء ما وراء الطبيعة فهم يعتقدون أن الديجافو يتعلق بخبرة حياتية ماضية عشناها قبل قدومنا إلى الدنيا في ذواتنا الحالية!و تلك ظاهرة أخرى تعرف ب “تجربة ما قبل الولادة BBE” (اختصاراً لكلمة Before Birth Experience) وعلى الرغم من التقدم العلمي على جميع الأصعدة الطبية إلا أن الغموض لا زال يكتنف ظاهرة ديجافوو رغم الفرضيات والتخمينات التي حاولت تعليلها إلا أنّ أياً منها لا يمكن البت به بشكل قاطع والمثير أكثر أنّ هناك ظاهرة معاكسة للديجافو، إنها ما يسمى بال Jamais Vu وهي الإحساس بأن (المألوف) غريب وجديد وكأنه يُصادف لأول مرة، وأيضاً لا يدوم هذا الإحساس إلا لجزء من الثانية،كأن تجلس مع أحد أصدقائك أو أفراد عائلتك ولوهلة تشعر وكأنك لم تره من قبل! كأنه شخص غريب.
البحث العلمي
التفسير العلمي الأكثر دقة لهذه الظاهرة ربما يرجع إلى شذوذ الذاكرة حينما تعطي مشاعر خاطئة تقول للمخ بأننا عشنا هذا الموقف من قبل لكننا لا نستطيع تذكر تفاصيل الموقف “السابق” (أين, متى, كيف).
عندما يمر الوقت, الشخص يستطيع استرجاع بعض التفاصيل المشوّشة في الحادثة الجديدة ولكن من المستحيل استرجاع تفاصيل الحالة الأولى (والتي كانت في بالهم عندما كانوا في الحادثة الجديدة!) وهذا عادة ما يكون بسبب تشابك في الأعصاب المسؤولة عن الذاكرة قصيرة المدى والذاكرة طويلة المدى.
الأحداث تتخزن في الذاكرة قبل أن تذهب إلى قسم الوعي في المخ البشري وتعالج هناك.
هناك أيضا تفسير علمي آخر لظاهرة (دَيْ چاڤو) وهذا التفسير يتعلق بحاسة النظر.
النظرية تقول بأن إحدى العينان تسجل الحادثة أسرع قليلاً عن العين الأخرى, فبعد لحظات قصيرة عندما تقع الحادثة, يُخيل لنا بأننا رأينا هذا الموقف من قبل، لكن من عيوب هذه النظرية أنها لا تقدم تفسير لتداخل الحواس الأخرى في الحادثة، كالسمع واللمس (كأن نشعر بأن أحداً من قبل ضرب يدنا اليسرى).
وأيضا من عيوب هذه النظرية بأن الــ(دَيْ چاڤو) حدث عند أُناس لا يرون إلا بعين واحدة (أعور). على كل حال هذه الظاهرة يمكن تفسيرها بشكل عام بقول أن هناك عدم توافق زمني في تسجيل الأحداث في نصفي الدماغ الأيمن والأيسر.
فرضية مراكز الذاكرة في الدماغ
تفسر هذه الظاهرة علمياً على أن المخ عبارة عن مناطق وكل منطقة مسؤولة عن وظيفة مثال: الرؤية تكون في مؤخرة الرأس، السمع على الجوانب وهكذا.
وما يحدث أنك عندما ترى شيئا يترجمه الجزء الخاص بالرؤية Visual Center وهذه هي وظيفته ترجمة الإشارات إلى صورة فقط أما فهم هذه الصورة واستيعابها أو تذكرها إذا كانت مألوفة يكون في جزء آخر يسمى Cognitive Center في هذه الظاهرة يحدث في بعض الأحيان تأخر بين العمليتين وتمر برهة من الوقت تدخل فيها الصورة إلى مركز الذاكرة قبل ال Cognitive Center، ثم تذهب الصورة إليه لاحقا فيظن المخ أنه رآها من قبل.
وتحليل آخر يرجع هذا الأمر إلى أن تواجدك في هذا المكان أو الموقف يترجم الأحداث إلى إشارات في الأعصاب، فترسل الأعصاب هذه الإشارات إلى مركز الذاكرة القصيرة (Short Memory) ليتم حفظها هناك وتكون هذه العملية سريعة جداً أقل من جزء من الثانية، ولكن يحدث في بعض الأحيان أن ترسل الأعصاب نفس الإشارات إلى مركز الذاكرة الطويلة (long memory) بالخطأ، فنشعر بان هذا الموقف قد مرنا بنا من قبل، وللعلم مركز الذاكرة الطويلة هي المكان الذي يحفظ فيه أحداث قديمه يمكن استرجاعها مع الزمن.
فرضية نصفي الكرة المخية
جميعنا يعلم أن الدماغ مكون من فصين أي جزئين، أحد هذه الأجزاء متقدم قليلا أي بارز قليلا عن الآخر، وعند إستقبال الدماغ لأي إشارة أو صورة يستقبلها الفصين معا، لكن في بعض الأحيان يستقبل ذلك الجزء البارز أو المتقدم قبل الأخر بثواني بسيطة جدا ثم ترسل للجزء الأخر الذي به يتم الاستيعاب الكامل لكل ما نستقبله من صور وأصوات وإشارات ضوئية وغيرها، فعندما يستوعب المرء المكان أو الصورة التي أمامه يشعر أنه قد رآها سابقا، ولكن الصحيح أنه قد خزنها في الذاكرة القصيرة قبل أن يتم استيعابها كاملا كل هذا يتم في ثواني معدودة.
اضطرابات نفسية
بعض العلماء حاول إيجاد رابط بين ظاهرة (دي جافو) وبين بعض الأمراض النفسية كانفصام الشخصية والقلق ولكنهم فشلوا.
ليس هناك أي علاقة بين هذه الظاهرة وبين هذه الأمراض.
العلاقة الأقوى وُجِدَت بين (دي جافو) و مرض صرع الفص الصدغي في المخ.
وهذه العلاقة قادت بعض العلماء للتأكيد بأن هذه الظاهرة هي نتاج لخلل في عملية تفريغ الشحنات الكهربائية في المخ.
الكثير من الناس يشعر ب”رعشة” سريعة في بعض الحالات (قبيل النوم بلحظات)، وهذه الرعشة يرجّح بأنها تحدث أثناء الـ(دي جافو) مما تسبب شعور خاطئ في الذاكرة.
الذين يشعرون بهذه الرعشات على الدوام, يعانون من تكرار حالة (دي جافو) ولكن أغلبها يكون صوتي, حيث يُخيّل له بأنه سمع هذا الصوت من قبل.
تأثير بعض الأدوية
بعض الأدوية ترفع نسبة حدوث الـ(دي جافو). في عام ٢٠٠٢، تمكن عالمان من دراسة رجل ظهرت عليه علامات الـ(دي جافو) عندما تناول دواء الـ (أمانتادين) و (فَنيلبروبانولامين) لعلاج أعراض انفلونزا حلّت به.
في الحقيقة، هذا الرجل أحبّ هذا الشعور وأكمل الدراسة وبدأ يزور طبيبه النفسي لتسجيل ما يشعر به.
هذان العالمان وصلا لنظرية بأن الـ (دي جافو) هو نتيجة تأثير المعدلات العالية من مادة الـ(دوبامين)أحد الموصلات العصبيى للمخ على بعض الخلايا في الفص الصدغي للمخ.
تفسيرات تعتمد على الذاكرة
الشبه بين المقدمات التي تحفّز ظاهرة الـ(دي جافو) وبين تلك التي تحفّز بعض الذكريات في المخ هي تفسير آخر.
أي أن بعض المشاعر الحالية تجلب لنا تفاصيل حوادث سابقة في الماضي فهنا تحدث ظاهرة الـ(دي جافو).
هذا التفسير يتيح للعلماء تطوير العديد من الأبحاث التي من شأنها أن تخلق حالات (دي جافو) حسب الطلب لدراستها تحت ظروف علمية.
بعض العلماء يعتقد بأن الـ(دي جافو) تتعلق بوظيفة الإدراك المألوف في الذاكرة.
وأيضا هناك تفسير آخر يقول بأن الـ(دي جافو) ما هي إلا نتيجة معلومات قد تعلمناها من قبل ولكن نسيناها والآن استطعنا استرجاعها فيُخيّل لنا بأننا نعيش الموقف مرتين(المخ البشري لا يمسح أي معلومة سجلها وإن نسيناها).